Status             Fa   Ar   Tu   Ku   En   De   Sv   It   Fr   Sp  

الاوضاع الدولية ومكانة الشيوعية

(تقرير الى المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي الايراني)


لقد طرحت الشيوعية العمالية في المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي الايراني، ومن ثم في المقالات المنشورة لاحقاً، بوصفها توجهاً واسلوباً ينبغي على حزبنا الاخذ به بارادته. ان لمسألة الى أي درجة احتل عملياً بحث ونفس عبارة الشيوعية العمالية مكانتهما في فكرنا وسياستنا، والى اي حد يوجد فهم مشترك لهما في يومنا هذا، لا اتطرق لها هنا. وعلى أي حال، طرحت ابحاث الشيوعية العمالية نوعاً من الخيار امامنا. الخيار بين ان نكون شيوعيين ودفع قضية الثورة العمالية الى امام او البقاء على العموم راديكاليين في اطار الراديكالية اللاعمالية. ففي هذه الفترة، جرت احداث مهمة جداً على الصعيد العالمي. وعليه، عدا الخيار الذي تحدثنا عنه في المؤتمر الثاني ليس فقط بنسبة لنا، بل بالنسبة لجميع فروع الحركة التي تعرف نفسها، سواء عن حق او من غير وجه حق، بالشيوعية لا يتمتع بأي صلة موضوعية أو ضرورة. ففي الطرف المقابل للشيوعية العمالية، الطرف المقابل لصف ثورة العمال، تتجه اخر الفرص للبقاء كتيار راديكالي صوب الانسداد التام. ان كان ثمة خيار محدد فهو مابين الشيوعية العمالية من جهة، والليبرالية والاصلاحية البرجوازية العقيمة من جهة ثانية. ان مرحلتنا، وكما شهدت على ذلك تجربة البشرية في العقود المنصرمة، هي مرحلة احتضار مجمل اشكال الراديكالية التي ظهرت وتبلورت بعيداً عن العمال، وبعيداً عن قدرتهم وعن مجمل الاهداف الاشتراكية لارساء الملكية العامة والغاء العمل المأجور. بيد ان ماتم طرحه في المؤتمر الثاني على شكل نداء مشجع، قد غدا اليوم انذاراً وتهديداً اخيراً.

ان احداث السنوات المنصرمة في الميادين الاقتصادية والسياسية العالمية هي دون شك احداث مذهلة وسريعة. الا ان اكثر هذه التغييرات اهمية هي الانعطافة الاساسية في الاتحاد السوفيتي ومارافقها بصورة وثيقة من تغييرات طرأت على العلاقات بين القوى الامبريالية والتي ماتزال مستمرة لحد الان. ان ابرام الاتفاقيات في ما يتعلق بتقليص الاسلحة النووية والتغيير الطاريء في مكانة الاتحاد السوفيتي يمثلان تجليات لها. وفي ما يتعلق بصفوف البرجوازية العالمية، طرأت تغييرات اساسية فيما يخص دورالدولة في الاقتصاد الرأسمالي. ولم تشمل اعادة النظر في النماذج المختلفة لرأسمالية الدولة وتدخل الدولة في الاقتصاد في اوربا الشرقية فحسب، بل شملت ايضاً مجمل المجتمعات الصناعية. ثمة تغييرات مهمة على وشك الحدوث في مراكز الازمة والصراع على الصعيد العالمي في امريكا واسيا والشرق الاوسط وامريكا اللاتينية. اذ اخفقت استراتجيات النمو الاقتصادي لعقود الخمسينات والستينات في الدول الرازحة تحت السيطرة الامبريالية. وبالنسبة لاغلبية تلك البلدان، تحولت معضلتها من معضلة النمو والتنمية الى معضلة البقاء الاقتصادي. كما حدثت انعطافة لا سابقة لها نحو الغرب. حيث لم تنعطف (الحركات التحررية )فحسب، بل تلك التي قدر لها استلام زمام السلطة. فيما تهاوت الاشتراكية والماركسية بوصفهما ستاراً أيديولوجياً للنضال من اجل الاستقلال والنضال (المعادي للامبريالية)وفقدتا نفوذهما ومكانتهما. اما في اوربا الغربية وامريكا الشمالية، فان الاشتراكية الديمقراطية والجناح اليساري للبرجوازية عموماً يغطان في ازمة ايدولوجية وبرنامجية عميقة، ويعيدان النظر في اسس نظراتهما وسبلهما السياسية والاقتصادية وينعطفان بنيوياً وأساسياً نحو اليمين. وقد تقلصت، وبشدة، سلطة النقابات العمالية في هذه البلدان، وخَفّتْ تدريجياً حدة ازمة الاشكال الحكومية في البلدان الواقعة تحت سيطرة الامبريالية والتي هي سمة عالم اواخر السبعينات وأوائل الثمانينات في خضم المساومات المتصاعدة بين القوى الامبريالية. وتمتعت برجوازية البلدان الواقعة تحت سيطرة الامبريالية بحدود اوسع من العمل والاستقلال السياسي.

لم تنبع أياً من هذه التغييرات من فراغ. فقد كان يمكن مشاهدة الجزء الاوسع بصورة جلية قبل ٣ سنوات من ذلك. وتعود جذور هذه التغييرات الى تطور رأسمالية مابعد الحرب العالمية الثانية وحصيلة مسارات أكثر بنيوية وسياسية. ولكن ماتجلى في هذه المرحلة الاخيرة، وهو مقترن اساساً بالتحولات الجارية في الاتحاد السوفيتي، هو بلوغ هذه التطورات بمجملها مرحلة اللاعودة، و ولجت مرحلة جديدة تماماً. اننا نشهد تغيرات أساسية في الملامح الاقتصادية والسياسية والايديولوجية للعالم الرأسمالي. تغيرات ستسم بعمق حياة و نضال الطبقة العاملة وأوضاع ومستلزمات النضال من اجل الثورة الاشتراكية بميسمها وتطبعها بطابعها.


مسارين حاسمين

تؤكد الاوضاع الراهنة حقيقيتين أساسيتين:

١- ان التطور المذهل للرأسمالية خلال العقود القليلة المنصرمة والثورة الهائلة في الامكانيات والقدرات الانتاجية للمجتمع من جهة، والابعاد الواسعة لويلات وشقاء مئات الملايين من الجماهير الكادحة الفاقدة للملكية في قلب العالم الصناعي والمتقدم ذاته. من جهة اخرى، طرح الشيوعية موضوعياً بوصفها سبيل خلاص واقعي وممكن وملح لتحرر مجمل المجتمع البشري.

٢- لقد بلغت الشيوعية والاشتراكية البرجوازية، بمجمل فروعها وأجنحتها، مأزقها وتقترب من النهاية. بيد أن هذا المأزق و التراجع لم يحصل جراء تطور الاشتراكية الراديكالية والعمالية التي تفتقر الان الى الانسجام والقدرة الاجتماعية، بل جراء هجمة الجناح اليميني للبرجوازية العالمية. ان تداعي وأفول الاشتراكية البرجوازية، سواء في التجربة الصينية أو السوفيتية أو في مصير الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية الاوربية والشعبوية المعادية للأمبريالية في البلدان الواقعة تحت سيطرة الامبريالية، لايعني مباشرة اشتداد ساعد وقدرة الاشتراكية العمالية، بل يعني الانسجام السياسي والايديولوجي للبرجوازية ضد الاشتراكية وضد الثورة العمالية.

و عليه لم يظهر للعيان ولم يبرز التضاد القائم بين حاجة المجتمع للتحول الشيوعي وتوفر الشروط الانتاجية لبناء مجتمع يستند الى الملكية العامة، وبين الغياب التام للقوة السياسية المنظمة للقيام بهذا التحول مثلما هو عليه اليوم.

إن النمو الهائل لرأسمالية ما بعد الحرب العالمية الثانية لايحتاج الى أي برهان ودليل. حيث يدلل التطور السريع للتقنية والثورة الالكترونية والمعلوماتية في العقود الاخيرة والتوسع المضطرد لأستخدام الروبوت وأنظمة الكومبيوتر في الانتاج والتوزيع على الابعاد الكمية لهذا التوسع. فيما تتمثل الحقيقة الاعظم بأتساع علاقات الانتاج وأمتدادها نحو البلدان المتخلفة والمستعمرات السابقة، وكذلك الحاق مئات الملايين من البشر بسوق العمل المأجور ودمج عناصر الانتاج وسوق التصريف في هذه البلدان في النظام الرأسمالي العالمي.ان هذه التطور والتوسع الهائل للرأسمالية، وما استلزمه من تغيرات اساسية في التنظيم السياسي والاقتصادي للبرجوازية على الصعيد العالمي، لهو في الواقع المصدر الاساسي لمجمل التحولات الطارئة على الصعيد السياسي والايديولوجي وعلى العلاقات الداخلية للفئات المختلفة من البرجوازية وفي تفكير اليسار اللاعمالي الذي اما يقوم بالتكتم على هذه الوقائع او التقليل من شأنها عبر الولع اللفظي والتشدق بالأزمة المزمنة للرأسمالية او جعلها عاملاً لزرع روح اليأس قبالة الافق الاشتراكي او بوصفها مبرراً لاحالة الثورة الاشتراكية الى مستقبل أبعد. بيد انها، ومن منطلق الثورة العمالية، توفر أرضية موضوعية مساعدة أكثر للتحول الاشتراكي. لقد غدا صراع العمل والرأسمال، بصورة ملموسة، القوة المحركة للتحولات الاجتماعية في العالم قاطبة الان، كما طبع بميسمه مجمل الصراعات الدائرة في عصرنا هذا .

إن تطور الرأسمالية يرادف تنامي الثقل السياسي للعامل في المجتمع. ويجعل الطبقة العاملة تتمتع على الصعيد العالمي بمكانة أكثر قدرة في الانتاج، وتبعاً لذلك في السياسة. قد يبدوا هذا الحكم مثيراً للعجب والاستغراب بالنسبة لأولئك الذين يرون في ذهنية اليسار واوضاع الحركة النقابية في اوربا مرجعاً لهم وأسرى وجهة نظر الاشتراكية الديمقراطية وماركسية الجامعات في اوربا. إنهم يتحفوننا بمسائل من مثل: بموزاة تحديث الانتاج وعصرنته وزوال الصناعات الثقيلة التقليدية مثل الصلب والفحم الحجري والتطور السريع للاعمال الخدمية، يتضائل الثقل الكمي للبروليتاريا مقارنة بمجمل عدد السكان، وتفقد النقابات العمالية قدرتها ونفوذها. ولقد همشت الحركة العمالية امام الحركات الداعية للسلام والبيئة وغيرها. وبدأت الاحزاب التي تتمتع بقاعدة عمالية مثل الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية الاوربية تفقد مقاعدها البرلمانية.وهي بصدد تعريف هويتها الاجتماعية من جديد واعادة النظر بأشكال الفهم تلك التي تربط الاشتراكية على نحوٍ ما بالطبقة العاملة. وحتى الاحزاب المدافعة عن المعسكر السوفيتي، تؤيد كذلك علناً توجه الاشتراكية الديمقراطية هذا. وغدت السياسة العمالية والاشتراكية العمالية والنضال الطبقي بزعمها مقولات بالية اكل الدهر عليها وشرب.

ان لمن العجب ان يصح مبدأ الصراع بين البروليتاريا والبرجوازية ومواجهة العمل للرأسمال على رأسمالية القرن التاسع عشر، رأسمالية عصر الالات البخارية، رأسمالية لا يتجاوز نطاقها حدود عدة بلدان اوربية، ويفقد موضوعيته وصلته بعالم امتدت فيه سلطة الرأسمال لتشمل اقصى مناطق افريقيا و اسيا وعالم المراكز الانتاجية العملاقة والشركات المتعددة الجنسية، عالم يؤدي فيه انتاج سلعة واحدة الى ارتباط المئات من المعامل والمراكز وملايين العمال في قارات العالم شتى. ان النسبة المئوية للبروليتاريا، للعمال المأجورين، لاتتجه نحو الانخفاض في الانتاج المعاصر. ليس هذا فحسب، بل على العكس تحول العمل المأجور الى وسيلة امرار معيشة مئات الملايين البشر في بقاع العالم المختلفة. ولاتمثل مجمل الصراعات الاجتماعية في العقد الاخير في نفس اوربا وامريكا الصناعتين، كما تدل على ذلك التاتشرية والريغانية والمانتارية، سوى صراع من اجل زيادة مردودية عمل نفس البروليتاريا التي اعلنت الاشتراكية البرجوازية زوالها. وادى ظهور طبقة عاملة واسعة في مجمل البلدان الواقعة تحت سلطة الامبريالية في العقدين الاخيرين الى حدوث تغيرات في البنية الاقتصادية والمعادلات السياسية التقليدية في المجتمع. ان الازمات السياسية والتلاطمات والثورات في بلدان مثل البرازيل والارجنتين وكوريا والفليبين وافريقيا الجنوبية وايران تجد جذورها في الوقائع الاساسية. انها تلاطمات ناجمة عن السعي من اجل تناغم وتطابق البنية السياسية لهذه المجتمعات مع بروز طبقة عاملة عظيمة تعلن مطاليبها وتطلعاتها بصراحة واقتدار متعاظمين.

لقد خلق هذا المسار العام لتطور الرأسمالية، من منظور الطبقة العاملة والهدف الاشتراكي العمالي، ودون شك، ارضية موضوعية اكثر ملائمة. فقد اتسع صف البروليتاريا وتقدمت الهوية البروليتارية، فيما يتعلق بالاغلبية الساحقة لكادحي العالم، علىالهويات القومية والعرقية. ومن جهة اخرى، فأن النمو الهائل للتقنية والقوى المنتجة للبشر والابعاد الاجتماعية والعلمية للأنتاج والتقدم المذهل الذي اوجدته الثورة الالكترونية في مجال الاتصالات والمعلومات واعداد الاحصائيات وغيرها، قد خلق الاسس لارساء مجتمع اشتراكي يستند الى الملكية العامة والسيطرة الجماعية على وسائل الانتاج وعملية العمل والانتاج الواعي المستند الى حاجات الناس وجعل اقامة مجتمع انساني عالمي فعلاً بوصفه امراً فورياً وقابلاً للتحقيق.


ازمة الاشتراكية البرجوازية

مع ذلك، من الواضح ان الاوضاع السياسية والايديولوجية للمرحلة الراهنة تضع عراقيل ومصاعب متعددة على طريق الثورة العمالية. إذ يمكن الحديث، في الوهلة الاولى، عن تراجع سياسي وايدولوجي جدي يعصف بمجمل الحركة الاشتراكية القائمة فعلاً. ان هذا التراجع يمتد بجذوره الى التطورات الاقتصادية للرأسمالية المعاصرة، ويتسم بأفلاس مجمل الاشتراكية البرجوازية على الصعيدين السياسي والنظري. من الممكن ان يُطرح السؤال التالي: كيف بوسع هزيمة الاشتراكية البرجوازية ان يُحسَبْ، من وجهة نظر الطبقة العاملة، كتراجع أو تحول سلبي. أليست الشيوعية العمالية، كما تم تعريفها في الابحاث الواردة حتى الان، نفسها بصدد سحق وأنهاء الاشتراكية البرجوازية وشبه الماركسية التي لجمت الحركة الثورية للعمال بطوقها وأسرها. الا ينبغي تقييم الازمة الراهنة للاشتراكية اللابروليتارية بوصفها خطوة اساسية للامام. بلا شك، ان أي تطور للشيوعية العمالية، واي ظهور للطبقة العاملة تحت راية الاشتراكية الثورية يعني انزواء وتقليص نفوذ الاشتراكية البرجوازية. وبلاشك، ان عجز البرجوازية عن التطاول على الشعار والهدف الاشتراكي يعني، على المدى التأريخي، تسهيل أمر الثورة الاشتراكية. بيد ان كل أضعاف أو الحاق الهزيمة بالاشتراكية اللابروليتارية لايعني مباشرة وتلقائياً، وبالضرورة، تقوية ساعد الشيوعية العمالية بالاخص فيما يتعلق بالحالة الراهنة. وتتمثل المسألة الاساسية في تحليل الظروف والاوضاع المحددة التي جرى في خضمها تراجع الاشتراكية اللاعمالية هذا. اننا نشهد انعطافة عامة على الصعيد الاجتماعي نحو اليمين وأنسداد آفاق الاصلاحية شبه الاشتراكية للجناح اليساري للبرجوازية قبالة التحولات الموضوعية الاقتصادية وهجمة اليمين الجديد. وسأشير لاحقاً، الى المشكلات والعوائق التي يضعها هذا التراجع امام الشيوعية والثورة العمالية. ولكن ينبغي، بادئ ذي بدء، التطرق الى العوامل الاساسية المساهمة في خلق هذه الازمة.


انهيار نماذج رأسمالية الدولة

شهد عقد الثمانينات تراجع اقتصادي وسياسي للنماذج المستندة الى تدخل الدولة في الاقتصاد الرأسمالي وفقدان مكانتها. وتراجعت، اليوم، حتى الاجنحة اليسارية للبرجوازية في البلدان الصناعية المتقدمة مثل الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية الاوربية عن مواقفها الخاصة بتدخل الدولة ولعبها دوراً واسعاً في السوق الرأسمالي. وقرعت الغورباتشوفية طبول هذا التراجع في مهد رأسمالية الدولة. وفي البلدان المتخلفة، انهارت تماماُ مساعي البرجوازية من اجل تنمية الاقتصاد القومي عبر رأسمالية الدولة. ان هذا التراجع هو حصيلة ولوج رأسمالية عصرنا الراهن مرحلة انتفت معها ضرورات تدخل الدولة من أجل تحجيم عمل السوق الرأسمالي، بل ان هذه السياسة نفسها قد اصبحت عائقاً امام التراكم. فقد كان تمركز وتراكم رأس المال وظهور الاحتكارات بحد ذاته عاملاً اساسياً لعب دوره، تاريخياً، في تعاظم دور الدولة بوصفها مؤسسة اقتصادية فعالة واداة لتنظيم الوضعية الاقتصادية. وحتى في اكثر اقتصاديات المرحلة الراهنة استناداً على التنافس، كان للدولة دوراً مهماً وبارزاً. كما ان الهجوم الذي يشنه المحافظون الجدد لا يستطيع ولايَستَهدِفْ إعادة الأوضاع القهقري لمرحلة المنافسة الحرة. ان مانقصده بأنهيار نماذج رأسمالية الدولة هو إفلاس النماذج شبه الاشتراكية التي سعت، عبر تدخل وتخطيط الدولة، الى لجم قوانين واليات السوق والسيطرة عليها. فقد شهدت المرحلة الراهنة الانتصار الاكيد للسوق والمدافعين عنه. وعموماً، هناك ثلاثة عوامل أساسية ساهمت في إبراز دور الدولة في الاقتصاد الرأسمالي طوال القرن العشرين.

١- طرحت الثورة الروسية، ولفترة ما، نموذجاً ناجحاً من الاقتصاد المدولن (المستند الى تدخل الدولة-م). ففي الوقت الذي كانت تعصف باوربا الغربية خلال فترة مابين الحربين العالميتين أزمة وكساد حادين، حقق الاقتصاد السوفيتي الذي تديره الدولة نمواً سريعاً هائلاً بحيث ادى الى إرتفاع الاتحاد السوفيتي من مرتبة بلد ضعيف يأتي في الصف الثاني بين الدول الاوربية الى مصاف قوة اقتصادية وعسكرية جبارة. ورغم ان هذه التطورات قد حدثت تحت راية الاشتراكية، الاانهُ من المعلوم، لدى مجمل البرجوازية وبالاخص البرجوازية في البلدان التي تتمتع الى حدٍ ما بمكانة مماثلة لروسيا، ان روسيا تطبق نموذجاً للتطور الرأسمالي بقيادة الدولة ومبادرتها. واقتبس الغرب الكثير من اساليب التخطيط والبرمجة والمحاسبة الاقتصادية المطروحة في الاتحاد السوفيتي وحولّها الى جزء لايتجزء من علم الاقتصاد البرجوازي.

٢- لقد ادى الركود الاقتصادي لفترة مابين الحربين العالميتين والتعبئة الاقتصادية على امتداد الحرب العالمية الثانية والمساعي الهادفة الى اعادة الاعمار في فترة مابعد الحرب الى جر الدولة بصورة واسعة للتدخل في الميدان الاقتصادي في اوربا الغربية ذاتها. وقد تم التنظير، بصورة واضحة، بعد الحرب لتدخل الدولة بوصفهِ السبيل الوحيد لتسريع تراكم الرأسمال والنمو. وقد تمحورت الخلافات بين اجنحة البرجوازية، اساساً، حول موضوعية السوق ام الدولة. لقد تحولت دولة الرفاه، التي تتضمن تزايد قدرة الدولة في الميدان الاقتصادي، الى الايديولوجيا الرسمية الحاكمة في الخمسينات والستينات تزامناً مع نمو الدخل القومي للبلدان الرأسمالية الاوربية الغربية.

٣- في أواخر الخمسينات، طُرِحَتْ قضية التنمية الاقتصادية للبلدان المتخلفة والمستعمرات المستقلة حديثاً على الصعيد العالمي وبصورة واسعة. يشكل تطور الرأسمالية والسوق الداخلي لهذه البلدان وإقامة الية مستقلة ووطنية للنمو الاقتصادي الهدف الاقتصادي للنزعة القومية هذه وافاقها الاقتصادية والايديولوجيا السائدة حتى المرحلة الاخيرة على مجمل اشكال التقدمية اللابروليتارية في البلدان المذكورة، ورسمت السيماء الثورية والراديكالية وحتى الاشتراكية في هذه البلدان. حيث ترسخت، منذ اواخر الخمسينات، استراتيجية معينة للتنمية في اذهان مثقفي هذه البلدان. وتستند هذه الاستراتيجية الى تشكيل دول قومية مستقلة وحماية الدولة للسوق الداخلي، وان تقوم الدولة بلعب دور مباشر وواسع لاقامة البنى الارتكازية الاقتصادية والأنتاجية. لم تؤكد الاجنحة الراديكالية في هذه البلدان، وهي الواقعة على الاغلب تحت تأثير النموذج التنموي القائم في الاتحاد السوفيتي ونماذجهِ المقترحة فحسب، على الدور الحيوي للدولة في النمو الاقتصادي. بل اكد حتى القوميون المحافظون على ذلك. وكانت مرحلة الستينات والسبعينات مرحلة اختبار استراتيجية النمو المستندة الى البرمجة والتخطيط الحكومي الواردان من قبل طيف واسع من الدول وان تكن بميول سياسية غير متجانسة.

لقد طرأت تغيرات أساسية، في السنوات الاخيرة، على مجمل هذه الميول. ينبغي استشفاف مصدر هذه التحولات في الثورة التقنية في السبعينات والثمانينات. وكشفت محدوديات رأسمالية الدولة عن نفسها. واثبت التأريخ عملياً ان النموذج الرأسمالي في الاتحاد السوفيتي كان يناسب مرحلة معينة من تأريخ المجتمعات الرأسمالية المتخلفة التي تضع في سلم اولوياتها هدف خلق الركائز الاقتصادية والصناعة الثقيلة وحشد قوى العمل وانتاج فائض القيمة المطلق عبر جذب اكثر مايمكن من الناس الى ميدان العمل المأجور. إلاّ انه، مع انتهاء احتياطي قوة العمل، ومع تجلي ضروة جذب التقنية الحديثة لانتاج فائض القيمة النسبي، ومع تعاظم تنوع الحاجات الاستهلاكية، بلغ مثل هذا النظام عملياً مأزقه. وتحتم على الاقتصاد السوفيتي، اثر مرحلة ركود طويلة ابان حكم بريجنيف، قبول انعطافات اساسية صوب اطلاق اليات السوق ليتمكن من استيعاب التطورات التكنولوجية للعقود الاخيرة وردم الهوة الكبيرة القائمة بين عمل اقتصاد هذا البلد وبين اوربا الغربية وامريكا. ان البيروسترويكا هي الاسم الرمزي لتراجع تدخل الدولة في الميادين السياسية والاقتصادية قبالة السوق في الاتحاد السوفيتي. تراجع يقلب المجتمع الروسي ومكانة هذا البلد على الصعيد العالمي. وقد شرعت البرجوازية في اوربا الغربية بالسعي الكبير لزيادة مردودية العمل واعادة هيكلة الرأسمالية لصالح الرأسمال المنتج. وتمثلت الخطوة الاولى في هذه السياسة التي طرحتها بوضوح تام برامج الاجنحة المحافظة والتي دخلت حيز التنفيذ العملي بتحجيم تدخل الدولة في الميدان الاقتصادي و تقوية نطاق عمل الرأسمال الخاص والية السوق. وعلى الرغم من التصورات الاولية، لم تكن هجمة اليمين الجديد حركة تكتيكية أو مرحلية تمكنت التيارات المحافظة الجديدة ليس فقط من اتخاذ خطوات جدية صوب تقوية القطاع الخاص وحل المؤسسات والاساليب المرتبطة برأسمالية الرفاه، بل استطاعت عملياً تغيير كفة الميزان ايديولوجياً في بلدان اوربا لصالحها. ان الاشتراكية الديمقراطية، مبتكرة دولة الرفاه والمدافع الصلب عن التدخل الواسع للدولة في تنظيم النشاط الاقتصادي والسيطرة عليه، لم تعجز عن مقاومة هذه التحولات الاساسية الاقتصادية والايديولوجية فحسب، بل قبلت عملياً قسماً مهماً من برنامج التيار اليميني.

وفي البلدان الواقعة تحت السيطرة الأمبريالية، وصلت استراتيجيتها الخاصة بالنمو المستقل الى طريق مسدود. وقد ابرزت الثورة التقنية في اوربا وامريكا واليابان، مرة اخرى، المعضلة القديمة للنمو الاقتصادي للبلدان المتخلفة، أي مسألة انتقال التكنولوجيا وقلة الرأسمال. وتبين خواء الافكار القومية المستندة الى النمو الاقتصادي المستند على التخلي عن سياسة الاستيراد والاستناد الى منجزات التقنية المحلية واتسعت الهوة التي تفصل البلدان الصناعية عن غير النامية منها. وتحول الفقر والقحط والديون الى خصيصة وسمة القسم الاعظم من البلدان الواقعة تحت السيطرة حتى تحول عجز البلدان المدينة عن تسديد ديونها للمؤسسات المالية العالمية الى مصدر تهديد لمجمل الرأسمالية العالمية. وثمة مسألة تسترعي الانتباه الا وهي انه لم تستثنَ من هذه القاعدة بلداناً مثل موزنبيق وانغولا وحتى فيتنام والتي وصلت الى الحكم فيها حركات تحررية ومناهضة للامبريالية و صاحبة أفق تدخل الدولة في الاقتصاد وتتمتع بحماية الاتحاد السوفيتي لها. ان استراتيجية النمو الاقتصادي القومي، سواء في شكلها المحافظ والموالي للغرب، ام بشكلها الراديكالي قد اخفقت وفشلت. وبهذا الصدد، مرت البلدان الصناعية الحديثة في شرق اسيا، والتي كان يطلق على نموذج نموها، طبقاً لمعايير المدارس القومية للتنمية في العقدين المنصرمين، لقب امبريالية وتابعة، بتجربة مختلفة تتمتع بمعدلات النمو العالية والمستمرة. فقد تطور وبسرعة الانتاج الصناعي في هذه البلدان. حيث يتمتع القطاع الخاص والرساميل الاجنبية بحرية عمل واسعة مما حطم، بالطبع، حلقة عدم التنمية. على هذا الاساس، وبموازاة افلاس النماذج القديمة للنمو، احرز نموذج النمو الامبريالي والمستند الى الرأسمال الغربي لدى برجوازية البلدان الواقعة تحت سيطرة الامبريالية قبولاً اكبر.

وطبقاً لهذه المسارات اعلن قادة البرجوازية الاوربية منذ الان انتصار السوق على الدولة. فيما تراجع المدافعين السابقين عن النماذج المختلفة لاقتصاد الدولة. لقد انسجم الجناح اليميني للبرجوازية وانهار الجناح اليساري وهو بصدد اعادة صياغة اسسه البرنامجية والسياسية والايديولوجية. ومهما يكن عليه الافق الجديد للجناح اليساري البرجوازي، فأن من المسلم به ان الدولة واقتصاد الدولة لن يتمتعاً بمكانتهما السابقة لديه.


الأبعاد الايديولوجية والسياسية للأزمة

إن هزيمة افق اقتصاد الدولة وجه ضربة مميتة وقاتلة لهيكل الاشتراكية البرجوازية في عصرنا ولمجمل فروعها وتلاوينها. ان تقليص الاشتراكية الى رأسمالية دولة والسعي للتغلب على تناقضات الرأسمالية عبر تدخل الدولة بأشكال مختلفة هو محتوى مجمل اشكال الاشتراكية اللابروليتارية بدءاً من التحريفية الروسية والتروتسكية حتى الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية الاوربية والماوية والشعبوية. ان مايعلن عن فقدان اعتباره اليوم هو هذا المحتوى المشترك. فألاسلوب والافق اللذان كانا من المؤمل منهما حل تناقضات الرأسمالية الراهنة وصلا الى تناقض مع تطور هذه الرأسمالية. وقامت المنافسة والسوق بتهميشهما. واستتبع ذلك، بصورة لا ندحة عنها، بروز أزمة سياسية عميقة تتعلق بهوية هذه التيارات. ان اوضاع الصين والاتحاد السوفيتي ويأس الاشتراكية الديمقراطية والاوضاع الوخيمة التي تمر بها الحركات التحررية والدول التي يطلق عليها بالراديكالية في البلدان الواقعة تحت السلطة الامبريالية تدلل كذلك على هذه الازمة. لقد اضاعت هذه الاشتراكية بوصلتها الاقتصادية وفقدت بموازاة ذلك كل دعواتها الاجتماعية. انها تفتقد للافق وسبيل الحل والبديل وحتى النزوع للبقاء في السلطة او كقوة. واصبحت تقدمية و(ثورية )هذه الاشتراكية عديمة المعنى ومفلسة بفقدان النموذج الاقتصادي والنظام الاجتماعي المستند الى الدولة. ان هذا التيار، حتى في النضال من اجل الاصلاحات، يفتقد الى نهج وتوجه معلومين. وعليه، لابد من تركه ميدان النضال من اجل نيل السلطة السياسية وارساء البديل الاقتصادي، وان يتقلص الى لوبي ضاغط من اجل تعديل عمل الرأسمالية الراهنة بأتجاه تحقيق حقوق الانسان والحفاظ على البيئة والسلم. وأصبحت الاشتراكية البرجوازية اشتراكية تفتقد الى الهدف الاجتماعي. وطبقاً لذلك، تفتقد للنداء السياسي. وتكشف هذه المعضلة عن نفسها، بأشكال مختلفة، في مصير احزاب المعسكر السوفيتي والاشتراكية الديمقراطية والشعبوية شبه الاشتراكية في البلدان الخاضعة لسلطة الامبريالية.

إن لازمة الاتحاد السوفيتي، كما مر بناً، جذور اقتصادية عميقة. ومع الغورباتشوفية، تم استكمال الحلقة الاخيرة تماماً لما فرضته البرجوازية في روسيا تحت يافطة (الاشتراكية في بلد واحد )على الثورة العمالية. لقد تم فرض رأسمالية الدولة جراء الضغوطات الاقتصادية الوخيمة وانعدام الافق الاقتصادي لمعسكر الشيوعية وضغط النزعة القومية الروسية في اواخر العشرينات على الطبقة العاملة بأعتبارها – أي رأسمالية الدولة – المحتوي الاقتصادي للثورة العمالية. وتم تقليص هدف الملكية الاشتراكية والغاء العمل المأجور، تلك الاجزاء التي لاتنفصم عراها عن اشتراكية ماركس الثورية، الى تأميم الرساميل والبرمجة الحكومية للانتاج الرأسمالي. وقد هيأ هذا الاسلوب الاقتصادي الارضية، عملياً، للانجاز السريع لمسار التراكم الاولى في روسيا وايجاد المرتكزات الاقتصادية والصناعية بصورة سريعة. ان شيوع الاوهام الخاصة باشتراكية النظام الجديد و تنازلات النموذج القائم بأتجاه حرية عمل اكبر للعمال في خضم عملية العمل، ووجود مصادر ضخمة للقوى البشرية في الارياف والقدرة الاقتصادية لبلد مترامي الاطراف مثل روسيا، وفرت الارضية للتطور الاقتصادي السريع. ولكن مع نهاية هذه المرحلة من التراكم والتطور، فقد النموذج الاقتصادي لرأسمالية الدولة كفاءته. ان الرأسمالية المتقدمة تستلزم الارتقاء الدائم بمردود العمل عبر توظيف التقنية الحديثة، اتساع تنوع الانتاج لرفع الحاجات الناجمة عن تزايد الدخل القومي، وجود اليه فعالة لتوزيع المنتوجات، التنبوء بالحاجات وحسبانها، تزايد جودة السلع، واحالة الرساميل الى ميادين اكثر ربحاً.

في رأسمالية النموذج الغربي، تقوم المنافسة والسوق بتأمين هذه المستلزمات. فيما يقوم (البرنامج )والقرارات الادارية في رأسمالية النموذج السوفيتي بالقيام بالقسط الاساسي لايفاء هذا الدور. ليس بوسع هذا النظام الاجابة على حاجات ومستلزمات رأسمالية متقدمة ومشكلاتها المتنوعة. ووفقاً لهذا، وفي الوقت الذي كانت فيه البلدان الرأسمالية المستندة الى السوق تهضم سريعاً نتائج الثورة التقنية، كان الاقتصاد السوفيتي يغط في ركود لم يسبق له مثيل. ويستحيل معالجة هذه الركود عبر ممارسة الضغط على الطبقة العاملة وزيادة شدة العمل أو الازدياد الكمي لعرض قوة العمل. ان الاقتصاد السوفيتي لامناص له من اجراء تغيير هيكلي بنيوي باتجاه اطلاق آلية السوق والغاء المحدوديات التي فرضها النظام السياسي والاداري في هذا البلد على التحرك الحر للرأسمال. انه ليس بتغيير صرف في المسار الاقتصادي، بل يقتضي انعطافه في مجمل الميادين في الاقتصاد والسياسة والايديولوجيا. ان تيار غورباتشوف حامل لواء هذه الانعطافة. ان الحصيلة النهائية لهذه الانعطافة هو زوال معسكرات الاشتراكية ليس على صعيد الاتحاد السوفيتي فحسب، بل على الصعيد العالمي. وترك ذلك تغييراً على ميزان قوى المعسكرات الامبريالية. و وصلت ازمة احزاب المعسكرات الاشتراكية اوجها كذلك. وأُعلِنَ عن هزيمة وافلاس النموذج الاقتصادي والاستراتيجية السياسية والتكتيكات العملية والمؤسسات الايديولوجية لهذه التيارات. ويوضع تأريخهم السياسي وشعاراتهم واساليبهم الواحدة تلو الاخرى لدى صفوفهم تحت طائلة السؤال. ويفقد نفوذهم النظري والسياسي اعتباره ومكانته. انه لمن المستحيل اعادة بناء معسكر تحريفي في الوقت الذي يسير فيه هذا التيار، وفي مركزه، وبصورة مستمرة، نحو تقليص الاختلافات الاقتصادية والسياسية مع الغرب. بوسع الغورباتشوفية، عند الليبرالية البرجوازية، على المدى القصير، التخفيف من وتيرة الدمار السريع لاحزاب المعسكر الشرقي. بيد ان هذا الانهيار أمراً لامفر منه في نهاية المطاف.

ان مكانة الاشتراكية الديمقراطية ليست بقتامة التيارات الموالية للسوفيت. ان مسار اعادة البناء الايديولوجي والسياسي للاشتراكية الديمقراطية في اوربا جارٍ على قدم وساق. ويتمثل العنصر الاصلي في هذا المسار في ابتعاد هذا التيار عن الحركة العمالية والحركة النقابية وسعيه لكسب قاعدة اجتماعية اوسع بين الفئات المتوسطة في المجتمع. وعلى الرغم من ان تحول الاشتراكية الديمقراطية الى تيار حكومي في بلدان مثل المانيا وبريطانيا لايبدو محتملاً على المدى القريب، الا انه ستديم نفسها وتحافظ على بقاءها بوصفها معارضاً قوياً وعاملاً لتشذيب وتعديل الاوجه والجوانب المتطرفة لسياسات اليمين البرجوازي. ولايتم ذلك الا عبر الانعطافه الاكبر نحو اليمين. وبموازاة ذلك، اعلن هذا التيار انفصاله عن الميول والسياسات العمالية والاشتراكية بصورة اكثر صراحة.

في البلدان الواقعة تحت السيطرة الامبريالية، سيكون للتحولات الاخيرة اثار مهمة وحاسمة على التيارات المحتجة والمعارضة. وبفقدان مكانة واعتبار تدخل الدولة وافلاس يوتوبيا الرأسمالية المستقلة، سيتم افراغ النزعة القومية الراديكالية والشعبوية من أي محتوى عملي. ونشهد الان تغيير تام في مسار الحركات المحتجة في البلدان الخاضعة للسيطرة، وهي بصدد التطابق مع مصالح الغرب. وان حركات قانونية (تدعو للعمل طبقاً للقوانين – المترجم )ومسالمة تبحث عن مستقبلها في نيل الامتيازات وعلى الاغلب في ليبرلة (من ليبرالية – المترجم )البنية الفوقية السياسية ونيل الحماية الاقتصادية من الغرب تحل محل (مناهضة الامبريالية )الشاهرة لسلاح العنف والتي كانت سائدة على حركات المعارضة في هذه البلدان في الستينات والسبعينات. ان تخلي الاتحاد السوفيتي عن مساندة الانقلابات المناهضة لامريكا والتي تتسم بالعنف، وانعدام بديل الكتلة السوفيتية من الناحية الاقتصادية ومد يد العون للتطور الاقتصادي لهذه البلدان، قدشددت بمجملها من هذا المسار. وبلغت الشعبوية الراديكالية والاشتراكية الشعبية للبلدان الخاضعة لليسطرة الامبريالية نهاية مطافها، وفقدت الافق والبديل السياسي والقوة المادية للنضال.

تشهد المرحلة الراهنة، اجمالاً، افول الراديكالية اللاعمالية وانزوائها. يعكس ذلك، مباشرة، الانعطافة الجارية على صعيد القاعدة الاجتماعية لهذه التيارات؛ فمصالح الاقسام المختلفة للبرجوازية ذات ارتباط وثيق ببعضها البعض. ان النماذج الاقتصادية للشرق والغرب تقاربت مع بعضها اساساً مع استسلام الاولى؛ ويسير اقتصاد الاتحاد السوفيتي وكتلته صوب الاندماج التام مع السوق العالمي. وعلى هذا الاساس، فأن منافسة الكتل التي تشكلت استناداً الى تجابه هذين النموذجين المختلفين بدأت تحل محلها منافسات قومية جديدة على الصعيد العالمي استناداً لتشكيل استقطابات اقتصادية قومية جديدة مثل اليابان والمانيا واوربا الغربية وبلدان صناعية جديدة. وتبحث برجوازية البلدان الخاضعة للسيطرة الامبريالية عن مستقبلها بالاندماج التام مع الرأسمالية العالمية بقيادة امريكا واوربا الغربية. لقد ترسخت هيمنة المدافعين عن السوق. وابرزت مشكلة تعاظم مردودية العمل مصالح مجمل البرجوازية قبالة الطبقة العاملة. وتم اضعاف ارضية الاحتجاج باشكال راديكالية وطرح افكار راديكالية داخل صفوف الطبقات الحاكمة. وتميل الاشتراكية البرجوازية وشبه الماركسية، وتحديداً، نتيجة افول نفوذ الميول الاشتراكية داخل الفئات الاجتماعية التي مثلت قاعدتها نحو الضعف؛ وفقدت برجوازية بلدان الكتلة الشرقية ومثقفي اوربا الغربية وحملة الشهادات والبرجوازية الصغيرة الحديثة للبلدان الواقعة تحت السيطرة الامبريالية املها بالنماذج شبه الاشتراكية السابقة، وتميل إلى الآفاق التي رسمها الرأسمال في الغرب استناداً الى الثورة التكنولوجية. ان هذا التحول لارجعة عنه. ازمة الاشتراكية والراديكالية اللاعمالية ازمة ناجمة عن الانعطافة في القاعدة الاجتماعية لهذه التيارات نحو اليمين.

لقد فقدت الراديكالية والاشتراكية اللاعمالية، على الصعيد السياسي والعملي، الميادين التقليدية لفعاليتها. وان افول الحركة النقابية في اوربا، افول حركات (اليسار)الجامعي وافول الحركات الشعبية (المناهضة للامبريالية )في البلدان الواقعة تحت السيطرة الامبريالية، قلص، وبشدة، ميدان العمل السياسي للشيوعية والاشتراكية القائمة فعلياً. وهي تدل جميعاً على انزواء التيارات شبه الاشتراكية، في السنوات القادمة، ودفعها نحو هامش الميدان السياسي.

وستؤثر ازمة الاشتراكية البرجوازية على مجمل الحركة العمالية والتيارات الاشتراكية الثورية. فأنزواء الاشتراكية البرجوازية وانعطافة الطبقات المتوسطة نحو اليمين في البلدان الصناعية والبلدان الخاضعة للسيطرة الامبريالية، تضع مجمل الحركة العمالية والماركسية في ظروف غير ملائمة. ولم تستطيع الشيوعية الراديكالية القائمة اليوم ان تجد ميدان للنشاط يختلف عن هذه التيارات. ويمثل الشعبويون والمثقفون الذين كانوا اساساً يعتبرون الاشتراكية اللابروليتارية قبلة انظار وموضوع عمل الاجنحة الاكثر راديكالية والاقرب للماركسية. وفي الواقع، لم يتعد وجود الشيوعية الراديكالية وجود تيار انتقادي ولوبي ضاغط على التحريفية والاشتراكية الديمقراطية. ان القاعدة الاجتماعية وموضوع عمل الماركسية الراديكالية لعصرنا ليس لهما أي اختلاف يذكر مع الاشتراكية البرجوازية والشعبوية. ان ازمة هذه التيارات وافولها يدفع منتقديها اليساريين كذلك نحو الانزواء؛ وسيتراجع ابداء التعاطف مع المثل الاشتراكية والنقد الاشتراكي للمجتمع القائم. ونظراً للتجربة المهزومة التي ارتبطت بأذهان عامة الناس بالاشتراكية سيشيع تخطئة الافاق الاشتراكية والسعي نحو تحقيقها. وسيتقلص نفوذ الماركسية بين المثقفين، وتشتد الهجمة على الماركسية على انها مدرسة انقضى عهدها واثبتت التجارب فشلها، وسيغدوا بقاءك اشتراكياً وتوجيه النداء للثورة الاشتراكية في اجواء اليأس الناجمة عن تراجع ونبذ التيارات الاشتراكية البرجوازية امراً اشد صعوبة. ان الاوضاع الراهنة ستحمل في طياتها الانكماش الاجتماعي لمجمل الاشتراكية الراهنة سواء اليسارية والراديكالية وحتى اليمينية والاصلاحية.


الشيوعية العمالية، القدرات والموانع

ان مجمل التحولات المذكورة هي، من وجهة نظر الشيوعية العمالية، تحولات مزدوجة ومتناقضة في الوقت ذاته. وتحرم ازمة التيارات شبه الاشتراكية الحركة العمالية من قيادتها القائمة الان. وان ذلك يؤدي حتماً الى تقليص قدرة عمل الطبقة في نضالها اليومي من اجل الاصلاحات. من جهة اخرى، تتوفر فرصة لتشكيل تيارات شيوعية عمالية على رأس الحركة العمالية. ان فشل الحركات الشعبية يدفع بالطبقات الوسطى جانباً فيما يتعلق بميدان الاحتجاج على النظام القائم. ولكنه، من جهة اخرى، يجلي السمة الطبقية للاحتجاج الاجتماعي ويبرزها بشفافية اكبر. ويضع الافلاس النظري للاشتراكية البرجوازية المكانة العامة للماركسية على صعيد المجنمع تحت طائلة السؤال. ولكن، من جهة اخرى، يجعل مسألة تشكيل رواية غير محرفة وراديكالية للنظرية الثورية لماركس امر اكثر بساطة. سيترك العديد صفوف النضال الاشتراكي، في الوقت ذاته، ستتخذ الاشتراكية التي تحل بعدها سمة اكثر عمالية واكثر راديكالية. ان مايتوجب ان الفت الانتباه له هو انه، في الوقت الذي ستحدث فيه مجمل التحولات سلبية في المسار العفوي للاوضاع بصورة لاندحة عنها، فأن التحولات الايجابية ستكون منوطة بالممارسة الواعية والهادفة للشيوعية العمالية.

بيد ان هذه ممارسة تتمتع بجملة شروط ومستلزمات عينية لنجاحها. ان الراديكالية العمالية ستتحول الى الشكل الوحيد الممكن للراديكالية. لا يوجد اي وقت مثلما هو عليه اليوم تتوفر فيه شروط تحويل النظرية الشيوعية الى قوة مادية اجتماعية. ليس ثمة زمان مثلما عليه الحال اليوم تكون فيه الطبقة العاملة بحاجة للشيوعية وفقط الشيوعية. وليس ثمة زمن مثل اليوم تكون فيه الظروف المادية مهيئة لتحويل الشيوعية العمالية الى اكثر التيارات الاحتجاجية حيوية واقتداراً. ان تطور ونمو الانتاج الرأسمالي والقدرة العظيمة للبروليتاريا في الانتاج على الصعيد العالمي والافلاس السياسي لمجمل التيارات التي تتوخى الحذر من الثورة على مجمل النظام القائم كلها دلائل على القدرات الهائلة للشيوعية العمالية.

بيد ان هذه الممارسة تستلزم اناسها المناسبين واحزابها المناسبة. ان نقطة الضعف الاساسية تكمن هنا. في الوقت الذي تنهار فيه الاشتراكية اللابروليتارية وترمي بانقاضها على الجميع، تتمتع الشيوعية العمالية بأقل ما يمكن من سند ودعم نظري وانتقادي وتقليد نضالي وتنظيم وكوادر. ان هذه المسألة تستلزم الانتباه العاجل للمدافعين عن هذا النهج.


منصور حكمت


تمت الترجمة عن النص المنشور في "بسوي سوسياليزم" – صوب الاشتراكية - المجلة النظرية للحزب الشيوعي الايراني، العدد الثالث، ١٩٨٩


ترجمة: فارس محمود
m-hekmat.com #0340ar.html